الاثار النفسية
                                                       للاحتلال الامريكي للعراق

 

   برغم العلاقة الوثيقة بين التعرض للضغوط النفسية وبين احتمال الاصابة بالامراض النفسية والجسمية الا ان اهتمام الطب ظل والى عهد قريب مقصوراً على جسم الانسان . ولعل ما ساعد على ذلك هو التخصصات الدقيقة في الطب والتي بدأت تهتم بمرض عضو معين او جزء منه . مؤكدة على المرض متناسية شخصية المريض نفسه .
   الا ان نشوب الحرب العالمية الثانية وما خلفته من امراض نفسية وجسمية ادى الى ظهور اتجاه جديد في الطب يعرف بالاتجاه النفس جسمي . وكان الرائد في هذا المجال هو طبيب الغدد الكندي ( هانس سيلي ) بعد نشر كتابه ( ضغوط الحياة ) عام 1956 بعد الدراسات والابحاث والنظريات التي جاء بها ( جيمس ) و ( لانج ) و ( لندزلي ) و ( اودلف ماير ) و ( بابيز ) .
   وجاء ( سيلي ) باعراض التكيف العام بعد التجارب التي اجراها في جامعة ماكجيل ، فقد لاحظ ان مستحضرات غدية معينة تحدث اعراضاً متشابهة تتميز بتضخم الغدة الكظرية وضمور الغدة النخامية والعقد اللمفاوية مع ظهور تقرحات في القناة الهضمية . ان بعض هذه التغيرات هي علامات تضرر فقط والبعض الاخر هي دلالات لآليات الجسم الدفاعية ضد هذه العوامل المختلفة.
   ومن الجدير بالذكر ان الضغوط وفقاً لنظرية ( سيلي ) تقسم الى نوعين ، الاولى هي الضغوط الجسمية كالكسور والحروق والحمى والالتهابات ، اما النوع الثاني فهي الضغوط النفسية ، كالصدمات النفسية والانباء المفاجئة والحرمان والقلق .
   ووفقاً لهذه النظرية فان الضغوط قد تؤدي الى تغيرات بدنية نسيجية مستديمة في جسم الانسان ، بمعنى اخر ان الفرد الذي يتعرض لضغوط نفسية او جسمية قد يكون عرضة للاصابة بالامراض الجسمية نتيجة التغيرات البدنية المصاحبة لتلك الضغوط .
   والمعروف ان بلد مثل العراق مر بظروف صعبة للغاية نتيجة الاحتلال الامريكي له وما صاحبه من عمليات عسكرية ، فضلاً عما عاناه الفرد العراقي من ظروف الحصار والعمليات الارهابية وكذلك القتل والتهجير التي رافقت الاحتلال ، مما يستلزم الانتباه لمدى تعرض الفرد العراقي لضغوط حياتية مما يتبعه ضرورة الاهتمام بالجانب النفسي للعلاج والذي مازال لايثير اي اهتمام لدى اطبائنا وادارات مستشفياتنا في الوقت الذي يعد معظم الاطباء ان نسبة 40 – 60 % من المرضى المراجعين للعيادات والمستشفيات يعانون من امراض نفسية .
   وتعد الحروب ذاتها من اقسى الضغوط النفسية التي يمر بها الانسان ، فهي تهديد مباشر لحياته وحياة عائلته وتهديد لممتلكاته ومستقبله بشكل عام . والحروب ذاتها تستفز الانسان وتثير انفعالاته بشكل كبير كصدمة اولى بالاضافة الى مايصاحبها من احداث تعد ضغوطاً حياتية تؤثر في تكيف الانسان وتحدث عنده تغيرات بدنية وجسمية قد تؤدي الى اصابته بمرض نفسي او جسمي مما يصعب تلافيه .
   ومن التغيرات المصاحبة للحرب مثلاً ، تغير محل السكن او وفاة احد افراد العائلة او وفاة صديق حميم او عوق شديد يصيب الفرد او احد افراد عائلته وصعوبة التنقل من مكان لاخر والمصاعب التي يلاقيها المجندون والمتطوعين في الحياة العسكرية ، هذا فضلاً عن الاضرار ممكنة الحدوث في البنية التحتية للبلد مما ينعكس على المواطن بشكل خاص من خلال تعطل الكهرباء وتوصيل المياه وعلى المجتمع بشكل عام من خلال تعطل حركة الانتاج وتأثيره على الاقتصاد العام للدولة ، وكل ذلك دون شك يعد من الضغوط الناجمة او المصاحبة للحرب .
   وفي دراسة سابقة قمنا بها لمعرفة معدل ازدياد هذه الضغوط لدى الفرد العراقي بعد الاشهر الستة الاولى التي تلت الاحتلال ، وجدنا زيادة تصل الى 150% عما كانت عليه قبل الحرب ، وهذه الزيادة بالتأكيد زيادة عالية تدعو الى التوقف عندها ووضع الحلول لتلافي مايمكن تلافيه والانتباه الى العلاج النفسي للمرضى البدنيين المراجعين للعيادات الطبية وللمستشفيات .
   كما بينت الدراسة ان الفرد العراقي يعاني من ضغوط اضافية لم تتضمنها المقاييس المعدة لقياس الضغوط النفسية ، ومن هذه الضغوط الاضافية هو ما تثيره قوات الاحتلال من استفزاز لدى مرورها في شوارع المدن او عند القيام بعملياتها ليلاً مما يؤدي الى الشعور بعدم الامان نتيجة توقع الفرد بان داره ستكون عرضة للاقتحام في اية لحظة وانه معرض للاستجواب والاهانة في اي وقت وهو مايتنافى مع القيم والعادات والتقاليد العربية والاسلامية التي جبل الفرد العراقي عليها. فضلاً عما ترمي اليه قوات الاحتلال من بث الفرقة بين طوائف ومذاهب الشعب الواحد فتجعل طائفة ما تشعر بالغبن او الانتقاص من بعض حقوقها ولهذا يسخر الفرد كل طاقاته ويوجهها لصيانة كيانه وكيان طائفته متناسياً دوره الوطني وانتماءه الاول والاخير الذي يجب ان يكون للعراق .
   وفي دراسة اخرى مشابهة للدراسة الاولى اجريت في السنة الاخيرة قبل جلاء قوات الاحتلال ، تمت المقارنة في عدد الاحداث التي مر بها الفرد العراقي بعدد الاحداث للفترة بعد الاحتلال مباشرة ، كما تمت المقارنة بين تقويمات الافراد لتلك الاحداث من حيث شدتها وذلك باستخدام المقياس نفسه والذي يقيس عدد الاحداث الحياتية الضاغطة التي يمر بها الفرد خلال مدة زمنية معينة اضافة الى قياس تقويم الافراد لشدة هذه الاحداث .
   بينت النتائج التي حصلنا عليها بعد المعالجات الاحصائية ، ان العراقيين قد خبروا او مروا باحداث حياتية ضاغطة في فترة قبل الجلاء اقل مما مروا به بعد الحرب مباشرة ، وقد يعود السبب الى ان الكثير من الاحداث التي رافقت الاحتلال او تبعته كالقتل والتهجير والعمليات العسكرية قد انخفضت بصورة عامة مما انعكس على خفض معاناة الفرد العراقي .
كما بينت الدراسة ان الافراد قد قوموا الاحداث بشكل اقل عما كانت عليه تقويماتهم بعد الحرب مباشرة وقد يعود السبب الى :
1. نتيجة لما تعرض الفرد العراقي من ازمات نفسية وضغوط ناتجة عن تكرار الحروب ومن الاثار الاقتصادية والاجتماعية لها قد اصبح اكثر تكيفاً لهذه الضغوط مما سبق .
2. اعتقاد الفرد العراقي بان هذه الضغوط قد شملت معظم العراقيين واصبحت عامة قد خفف من معاناته وجعلته اكثر تكيفاً .
3. التحسن الامني والتحسن النسبي في المجالات الاخرى وبداية انسحاب القوات الامريكية قد جعل الفرد ينسى معاناته في الاشهر الاولى بعد الاحتلال .
   مما سبق يبدو لنا ان الفرد العراقي قد تعرض الى احداث حياتية ضاغطة كثيرة نتيجة الاحتلال وان انخفضت في السنوات الاخيرة الا انها لاتزال بنسبة عالية ، وهذا ما يدعونا الى ايلاء اهمية اكبر للعلاج النفسي وعلى اطبائنا ومستشفياتنا الانتباه الى ذلك

 

Comments are disabled.